Responsive Ads Here

الثلاثاء، 24 أكتوبر 2017

أدبي - قصة

((العقل المعدني ))

بينما كانت الأمطار تغرق جزيرته وتخفيها من معالم الخريطة ، خرج هو للحياة ..
رحل كل شيء مع رحيل أرض الوطن ، تفرّق الأصحاب .. تطاير كل شيء وانتشر ، كما لو كانوا قطرات هذا المطر ..
هاجرت أُسرته فوق قارب صيد ورحلت إلى أقرب مرفأ..
وصلت إلى برِّ أمانٍ بعد خوض تجربة الموت في وسط البحار ..
علمَّته هذه التجربة أن يكره البحر والشاطئ ، أن يكره المطر ويبغض قوسه الذي أرسل له سهاماً قتلت كل شيء في ذلك اليوم الأسود ..

هل تعلم كيف هو شعور أنك لا تملك وطناً ؟
أو أرضاً تعود إليها حينما تملّ كل شيء ؟
عندما لا تطمح لشيء آخر سوى العيش كإنسان " لو لمرّة " .

لقد علمَّته هذه التجربة كيف يكره كل شيء ، وأن يعيش لأجل أيامه التي قد كُتبت له ..
كان صغيراً بائساً قد علمته الحياة جانبها الأسود فحسب ..

أخذته الأرض مع أسرته إلى مدينة صغيرة كانت سابقاً مليئة بالبشر ، لكنهم تركوها بسبب حربٍ سابقة !
بالرغم من أن تلك الحرب توقفت إلا أنَّ لا أحد أراد الرجوع إليها ، لذا هي المكان الوحيد الذي يمكنهم العيش فيه عوضاً عن وطنهم ..

بدأت عائلته بالتعايش في هذا المكان الميت والخاوي ..
لم يتذمر أحد منهم - سواه - .. بقي يتحدث بكل غضب ، ولكن لنفسه ..
تكيفت العائلة الضائعه وحسب مع هذا المكان ..
القليل من الناس يأتون ، والندرة منهم من يقررون البقاء ..
الناس المختلفون ، ينصبُّون في هذا المكان ، يجمعهم شيء واحد ..
حاجتهم للبقاء ورغبتهم في العيش بأي ثمن ، يتشابهون في مقاساة العيش ، و الصمت رغم الألم ..
لكنه ، لم يفعل !
لأنه لم يرغب أن يحيا هكذا، منزوع من كل شيء !
انطوى على نفسه وخبأ كل هذا بداخله ، كما لو كان محرمّاً عليه البكاء والحديث عما في جوفه ..
لأنه سيقول فقط ما لا يقدر أحد على حلّه ، سيزيد الألم على كل هذه القلوب المكسورة بالفعل ، سيجعل الجراح تبدو اعمق ..
لهذا هو أيضاً يلتزم الصمت رغم أنه يشتعل في جوفه ، محتفظاً ببقية سعادة هؤلاء البؤساء ، تاركاً اياها لهم .

وفي الخفاء ، كان حزيناً لأنه لم يعش يوماً سعيداً قط !
بل لم يعرف حتى كيف يمكن أن يبتسم ..
عيونٌ ذابلةٌ وروحٌ مُعدمَة ، هكذا يمكنك أن تراه ..
بائس للدرجة التي تدفعه للغضب ، وحب الحياة أكثر ، يرغب بتحقيق أي شيء في سبيل تغيير هذه الأيام السيئة !

عاش في مدينة يستطيع أن يمتلك فيها أي شيء ، مدينة تخلى عنها كل أحد ..
مبانٍ باهضة ، لم تعد تساوي شيئاً .. يفضِّل الناس العيش في خيامٍ بدلاً منها ..
لكنها بالنسبة لكل هؤلاء ، وطنٌ لحظيٌّ يمتلكونه بالكامل .

لا يهم لو لم يأبه بشأنهم أحدٌ ما داموا أحياء ..
لا يهم طالما يعيشون مع بعضهم البعض ، ما دامت حياتهم تمرُّ مرور الكرام فقط ..


" ذو العقل المعدني " - الفتى الذي لم يعرف طعم الحياة ولم يجرّب سوى حظه التعيس فقط ، قد وجد أخيراً زاويته الشخصية !
بداخل أكثر البنايات اسوداداً وقِدَماً ، هناك .. توجد غرفة بنافذة واسعة !
إطلالةٌ فريدة لمنظر شروق لا يمكن حتى تخيله !
فالمنزل المشتعل هذا ، المتفحّم .. يجعل من بصيص أشعة الفجر شيئاً آخر .. كلمعان ألماسةٍ في قاع مُحيط !
شيء يأسر فؤاده المنكسر ، ويعيد له روحه من جديد ..

يأتي إلى هذا المكان كلما اسودّت الحياة في وجهه - ليتنفّس !-
كما لو كان غريقاً قد سحبه أحدهم من قعر المياه ..
يتأمل فحسب هذا الكون / ونفسه ، فينسى كل شيء آخر ..
اتخذ منها منزلاً لخياله وأحلامه وأفكاره وأوهامه ، لضحكاته ودموعه ، لصراخه وبكاءه .
يصبح فيها مجنوناً كما يشاء ، هي كل شيء بالنسبة له ..

في إحدى المرات وبينما كان يفعل حركاته الجنونية ، سقط جواره جزء صغير من سقف تلك الغرفة ، كان مرعوباً لأنه ظنَّ أنَّ هذا المكان أيضاً سيترامى ويُدفن ، لذا هرب منه بعيداً .. لكنه لم يلبث طويلاً وعاد إليه ..
وهناك .. في تلك الغرفة المتفحمة ، وجد شيئاً مختلفاً ، شيء آخر لا يقارن بألماسته المشعة خلف زجاج النافذة ، ولا موطنه المفقود ، وجد هدفاً يحيا من أجله ..
خريطة كروية - وكتبٌ مهترئة لم تصلها نيران هذا الحريق السابق ، الذي قد دمّر كل شيء في هذه البناية ..
وجد مخزناً مهولاً من الأشياء الغريبة عليه فوق السقف !
كان مخزناً صغيراً ، يحمل كل شيء بداخله رائحة صدأ ، كان محمياً بشكل غريب ، كما لو كانت بقعة اخرى في مكان آخر ..
لم يتأثر هذا المخزن بأي شيء !

بدأ ذو العقل المعدنيّ بقراءة كل هذه الكتب والبحث في تلك البناية عن مخازن أُخرى كهذه ، لكنه لم يجد شيئاً سواها .
لذا أكمل قراءته وربط كل شيء ببعضه البعض ..
هناك .. تعلم أشياء كثيرة لوحده !
تعلَّم جانب آخر عن الحياة لم يكن يعرفه سابقاً ، بدأ بفهم هذا الكون بشكل طبيعيّ أخيراً !
وهناك أيضاً تعلم أن البحار كثيرة واسعه ، وأن الأمطار نعمة والحياة كذلك ..
انغمس في فهم الحياة ولم يلاحظ أنه لم يكن في كل تلك الكتب ، كلمة أو حتى بقعة تُلمِّح لوجود وطنه !
لم يلاحظ أنها مختفية أيضاً رغم قِدَم هذه الكتب وكثرة التفاصيل فيها ..
لم يلاحظ وطنه ، لأنه لم يتذكر وجوده بعد - في عقله على الأقل - ، لقد نسي وطنه المنسيّ  أمام كل هذا الكون الواسع ..
لقد نسي غضبه وألمه وحزنه ، وبدأ كشخص آخر يعيش حياةً مغايرة عمّا كان يحسبه !
لقد أسرته الحياة التي كسرته ، وأخذته إليها فحسب ..
فأحبها وأحب هذا الكون بجنون ..
انغمس فيها حتى انهى قراءة كل تلك الكتب ، بدى متحمساً أكثر من أي أحد ..
وعندما خرج من زوبعته .. صدمته أوجه هؤلاء الأحياء من حوله .. جعلته يتذكر كل شيء ..
بدى وكأنه مخدوع ، مخدوعٌ من قِبَل الحياة ، والأوراق ، مخدوعٌ من قِبَل السعادة ، والأحلام .. مخدوعٌ من قِبَل نفسه أولاً ..
حسناً .. هذا هو الكون الرائع ، وهنا أنا .. في أحلك نقطة في هذا الكون ..
لقد بدى و كأن روحه قد حلَّقت بعيداً في ذلك اليوم ، ثمَّة شيء مات بداخله .. لا يمكن لأي أحد إعادته ..

ضلَّ على حاله ، حتى تفاجأ بعودة أحد سكان المدينة الحقيقيين ، قد ذاقوا من الأذى ما ذاقوا ، للدرجة التي قرروا بها العودة لديارهم والموت فقط في منازلهم ، لكنهم لم يتوقعوا وجود كل هؤلاء الناس في المدينة ..
أعطاهم شعوراً غريباً .. كما لو أنهم غُرباءٌ أيضاً في أرضهم ، لكنهم كالجميع اعتادوا على العيش والتعايش ..

من بين أفراد تلك العائلة ، فتى عمره مقارب لعمر ذو العقل المعدني ، انخرطوا الإثنان سويّا ، تحدثا عن حياتهما ، وبلا شعور حصل كل واحد منهم على أول صديق له في حياته !
أخذا بعضهم البعض في جولة لمعالم المدينة ، أحدهم يصف الأماكن السابقة وأسماءها ، و الآخر يصفها كما هي بعد تغيرها ..
أخذ ذو العقل المعدنيّ صاحبه ليريه إطلالة الأشراق ، لكنَّ صاحبه رفض الدخول !
لأن هذا المكان كان سبب بداية الحرب التي حصلت لمدينته !
علِمَ ذو العقل المعدنيّ أنَّ سبب تفحّم ذلك المنزل لأن كل سكان المدينة قد احاطوه بالنيران ، كأنما يضرمون غضبهم فيه ..
لأن صاحب المنزل قد تركهم للحرب وذهب إلى العاصمة يحتفل مع أصحابه على أنغام صراخ سكّان مدينته !
لذا ، لا يمكن لأحد أن يرغب بدخول سبب هذه المأساة ، بل وكيف يسعد بداخلها ؟
حينها بدأ ذو العقل المعدني بالتفكير من منظورٍ آخر ، ماذا لو كانت تلك الكتب والأشياء الغريبة .. أشياء مختلقة ؟
لقد كانت خيالية للدرجة التي تفوق خياله حتى ، و لهذا أسَرَته ، لأن الواقع لم يأسره يوماً حتى ..
ثم أصبح يفكر في ماهيتها ؟ وسبب وجودها ..

بدأ هو وصاحبه يحلّان هذه المسأله ، يحاولان اكتشاف الحقيقة بين الخيال ، واستئصال الخيال من الحقيقة .
وبعد بحث يتلوه بحث .. وجدوا جثة الرجل - صاحب المنزل - في قبو المنزل تحت منضدة خشبية كبيرة سوداء اللون ، قد غطت رائحة الحريق على رائحة الجثة القابعة أسفلها !
و قد اخفت معالم كل شيء ما عدا جثة واحدة بيد ذات ستة أصابع تطابق أوصاف ذلك الرجل الذي قد مقته الجميع ..


الحياة التي قد قست عليك ، ولكنك ما زلت حياً محبوباً فيها ..
بدأ الإثنان بتقدير حياتهما ، بشكلٍ أكبر وأعمق ..
حياة ذلك الرجل الغنيّ بدت بائسة أكثر ، لأنه لم يقم أحد بالبحث عنه بأرجاء المنزل ..
لقد صدّق الجميع كذبة أحدهم فقط ..
بل شتموه ، وكرهوه .. وهو الوحيد من بينهم الذي لازم منزله - رغم اشتعاله .. ومات فقط بداخله ، لسبب لم يعرفه هو بعد ، ثُمَّ لم يبحث أحد عنه ، حتى هذه النقطة .

جعلهم هذا يتسائلون ؟
ماذا لو أنهم هم من بدأو هذه الحرب ؟
ماذا لو أن الجزيرة التي غرقت كانت جزءاً من البحر ، لكنها لفترة ما قد برزت كأرض ثم عادت إلى البحر ..
خطأ من يكون حينها ؟

ماذا لو أنَّ الحياة لم تكن بتلك القسوة حقاً لو أننا لم نُدِر ظهرنا لها ..
ماذا لو أننا فهمناها حقاً ؟
ماذا لو أننا توقفنا عن النحيب وانطلقنا نبحث عن متنفس ؟
لو أننا فقط وجدنا انفسنا وعشنا كما نريد بالطريقة التي أوجبتنا عليها الحياة ؟
لاشيء يهم سوى أن تحيا ! تحيا بطريقة تشعرك بالسعادة .. حتى لو أحاطك ضعف وشعرت بعدم المقدرة ، لربما ما تسعى جاهداً نحوه .، يسحبك إلى مالا تريد ..
وما يسحبك إليه جاهداً ، تحاول الفرار منه !


تغيرا هؤلاء الإثنان ، لم يفكرا بتغيير أي أحد ..
لكنهما أرادا صنع الحياة لهما ، و إعادة تلك البهجة المفقودة ..
التي كما لو أنها مُنعت من المشاركة ، وحرمت على الجميع ..

مهما حصل ، أنت تملك الحق في أن تبتسم ، وتحلم ، وتعيش ..
لا أحد في هذا الكون سيسلبهن من جوفك ...
لذا انسَ كل شيء ، و عش بقية حياتك كما يجب فقط !
ولا تتجاهل فرصة سعيدة ، تتركها وراء ظهرك ، فتبكي عليها حين تبتعد ..
عش فقط ، حياة كُتبت لك أن تعيشها ، كما تُحِب ، وتسعَد .

- تمت -



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق